في مثل هذا اليوم الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1949 أعلن رئيس وزراء العدو الصهيوني حينها ديفيد بن غوريون حقَّ الكيان الصهيوني في ضم مدينة القدس المحتلة إليه، وكان هذا أول تصريح من الكيان عن نيته ضم القدس التي تعتبر قلب الكون.
ذكرى أليمة تضاف إلى سجلٍّ طويلٍ من الذكريات المريرة التي يمر بها المسلمون والفلسطينيون على وجه التحديد.
مخططات تهويد القدس
لقد كانت مدينة القدس المحتلة في عقل اللوبي الصهيوني ووجدانه منذ بداية حركته الصهيونية؛ ليس من باب أنها حقٌّ لهم، وإنما لأنها تعني بالنسبة إليهم ضمانًا لبقائهم في دولتهم المسخ "إسرائيل".
ومن هذا الباب كانوا ينفذون منذ عام 1897م مخططاتهم لتهويد القدس وتغيير معالمها الإسلامية والمسيحية ويرفضون دائمًا الانسحاب من القدس، بل وقيامهم بإعلان القدس عاصمة أبدية لهم؛ وذلك كله بدعمٍ بريطانيٍّ وأمريكيٍّ.
منذ اجتماع المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م في مدينة بال بسويسرا عرض هرتزل "مشروع الدولة اليهودية" والهادف إلى إقامة دولة يهودية على كل أرض فلسطين، ومنذ ذلك الحين أصبحت الحركة الصهيونية مكشوفة أهدافها وأطماعها، والتي حاولت -بشتى الطرق استغلال كل إمكانياتها وطاقات اليهود في شتى أنحاء العالم، مثيرة في ذلك معتقداتهم الدينية ونوازعهم الحزبية وانتماءاتهم السياسية وحاولت إصباغها بقالب الحركة الصهيونية- تحقيق قيام الدولة اليهودية في فلسطين خاصة.
سرقة القدس!
ومنذ انطلاق أصوات الحركة الصهيونية عام 1897م لإقامة دولتهم، لم يعلنوا أن هدفهم الاستيلاء على كل فلسطين وطرد الشعب العربي الفلسطيني من دياره أو حتى أن مدينة القدس هي مدينتهم، وكان كل ما يعلنون عنه هو "سعيهم إلى الوصول إلى أماكن العبادة لأداء شعائرهم الدينية، وفجأة وبعد حرب 1967م، وبعد أن احتلوا مدينة القدس أعلنوا أن القدس مدينتهم، وقاموا بضمها إلى "إسرائيل"، ومنذ ذلك الحين وجميع قادة الكيان الصهيوني يرفضون التنازل عن القدس حتى مع صدور العديد من القرارات التي أدانت الاحتلال الصهيوني منذ صدور قرار 242 وحتى الآن؛ منها قرار جولدا مائير أمام اجتماع حضره زعماء الحركة الصهيونية في العالم بأنه "إذا كان العرب يظنون أن المفاوضات ستنتهي بالحديث عن تنازلات في مدينة القدس فإنهم واهمون".
إن سلطات الاحتلال الصهيوني تحاول دائمًا هدم مفاوضات "السلام" مع العرب؛ وذلك بإعلانهم عدم انسحابهم من القدس ومحاولتهم إقناع العالم أجمع بأن عدم انسحابهم من القدس ليس من أجل عرقلة قضية السلام، بل لأنها عاصمتهم التاريخية، وأنه لا علاقة للعرب بها إطلاقًا.
محاولات إقناع صهيونية فاشلة
إن سلطات الاحتلال -ومعها حركات الصهيونية- حاولت إقناع العالم بذلك عن طريق تأليف لجان وجمعيات وهمية تحت مسمَّيات مختلفة لترويج هذه المفتريات التاريخية، إضافة إلى ذلك لجأت الحركة الصهيونية إلى إصدار البيانات من أجل تحقيق غايات مهمة؛ هي أن القدس لن تعود عربية أبدًا، والتي تكشف لنا هذه البيانات عن أن هذا الكيان لا يزال يتبع خداعًا في سياساته، وأنه لن يتنازل عن شبر واحد من أرض مدينة القدس، ولن يقبل التخليَ عن "مقدساته"؛ وذلك حتى تبقى "إسرائيل" قبلة العالم ومحط أنظارهم دائمًا.
ولعل من أهم هذه البيانات البيان الذي أصدرته في كنساس "منظمة الثقافة الأمريكية لضمان وجود (إسرائيل آمنة)" في أواخر شهر تشرين الثاني نوفمبر 1973م، والذي تم فيه تأكيد أن فلسطين لم تكن دولة عربية على مر التاريخ، بل كانت المنطقة بأسرها قبل عام 1900م دولة يهودية، إلى جانب ذلك يقرِّر البيان أنه قبل عام 1922م كانت الأردن جزءًا من فلسطين، ولم تكن عربية قط، وقبل عام 1948م لم يكن شرق القدس ولا الضفة الغربية جزءًا من الأردن، وأن منطقة غزة الفلسطينية لم تكن جزءًا من مصر، وأن شبه جزيرة سيناء لم تكن عربية ولم تكن جزءًا أساسيًّا من مصر طيلة 400 سنة قبل عام 1900؛ حيث كانت سيناء مستعمرة تركية، وبعد عام 1900م قامت مصر بعمل عدواني ضد تركيا وسيطرت على البدو في سيناء، ولم يكن هناك شبر واحد من الأرض تم الاستيلاء عليه من قِبَل "إسرائيل" التي أعيد تشكيلها عام 1947م، ولم يكن هناك لاجئ عربي واحد قبل قيام مصر والأردن بغزو فلسطين عام 1948م.
كانت القدس ولا تزال من أهم أهداف الحركة الصهيونية منذ انطلاقها، ويشار إلى اشتقاق كلمة الصهيونية من كلمة "صهيون"، وهو أحد جبال القدس، وهذا يعني مدى مكانة القدس عندهم، ولعل ذلك ما أكده ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، والذي كان يردد دائمًا منذ بداية تسلمه الحكم أنه "لا معنى لـ"إسرائيل" بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل".
ومن هنا فإن كل الأقوال والإعلانات منذ تأسيس الحركة الصهيونية، والتي تم تداولها بين أقطاب اليهودية، لم تكن كلامًا مرسلاً، بل مخططات مدروسة ومرصودة، حتى إنهم وضعوا كل ثقلهم الديني والسياسي والاقتصادي والإعلامي من أجل احتلال القدس منذ عام 1948م وحتى الآن؛ حيث أعدَّ الصهاينة خطة كاملة لاحتلال القدس والاستيلاء عليها والعمل على إزالة معالمها العربية والإسلامية، ومن هنا نجدهم في حرب 1967م قاموا بإزالة الأسوار في حي المصرارة التي كانت تفصل القدس العربية عن القدس المحتلة، كما أزيلت جميع المباني والمساكن والمساجد والزوايا الملاصقة للبراق؛ حيث جرى إعداد حائط البراق لاستقبال اليهود من جميع أنحاء العالم، وطبعًا كان قمة الإجراءات هو إعلان ضم القدس العربية إلى "إسرائيل".
الكيان الصهيوني قام بالعديد من الخطوات العملية للاحتفاظ بالقدس إلى الأبد، والتي تم اتخاذها منذ ظهور الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، وتتمثل في محاولة خداع السلطان عبد الحميد لإقامة جامعة عبرية في القدس، إلى جانب مشاريعه "الاستيطانية" في القدس، إضافة إلى محاولته توريط المهندسين العالميين في إزالة المعالم الإسلامية والمسيحية في القدس.
حقائق تاريخية دامغة
من خلال استعراض تاريخ القدس تتبين العديد من الحقائق التاريخية التي تفنِّد المزاعم التاريخية لليهود، والتي من بينها أن مدينة القدس كانت مقدسة قبل حكم العبرانيين وقبل بناء الهيكل، وأن أول من سكن القدس هم العرب من اليبوسيين والكنعانيين والعموريين، وأن تاريخ القدس وفلسطين معًا بدأ بحكم الكنعانيين والحموريين والحيثيين والفلسطينيين والفينيقيين والهكسوس، ثم حكمها بعد ذلك الأدوميون والمصريون وبنو إسرائيل والآشوريون والبابليون والعجم واليونان والرومان والبيزنطيون.
وخلف هؤلاء جميعًا العرب المسلمون، إلى جانب ذلك تبين أن العبرانيين أجداد اليهود ليسوا من أصل فلسطيني، بل هم بابليون، ولم يكونوا أول من سكن فلسطين والقدس، وأن العبرانيين تركوا البلاد أكثر من مرة بمحض اختيارهم، وأنهم بأنفسهم هدموا الهيكل، وأن اليهود لم يكن لهم أي أثر ديني في القدس، وأن حائط البراق الشريف هو أيضًا جزء مهم من حائط المسجد الأقصى، وأنه لا يوجد أثر للهيكل.
سقوط المزاعم الصهيونية
لقد سقطت المزاعم الصهيونية عن الحق السياسي أو الدولي؛ حيث إن المبادئ والأسس للحقوق القديمة والحديثة قد اتفقت على رفض نظرية الحق التاريخي لعدة أسباب؛ أهمها حق الفتح ومرور الزمن واعتراف اليهود أنفسهم؛ حيث إن الفتح -كما يقول فوشيه- لم يعد اليوم طريقًا لاكتساب الملكية، ولا تنتقل به السيادة من دولة إلى أخرى من غير إرادة سكانها، إضافة إلى أن تذرُّع اليهود بحجج عدم سقوط حقهم في القدس وفلسطين؛ لأنهم خرجوا بقوة السلاح منها، فإنهم أيضًا خرجوا منها برضاهم، كما أنهم ليسوا أول من سكن فلسطين، وأن قضية مرور الزمن -باتفاق معظم المشرعين ورجال القانون الدولي- تعتبر من أسباب الملكية الصحية، ومن هنا فمرور الزمن على خروج اليهود من فلسطين طيلة سبعة قرون للحكم العربي الإسلامي أسقط كل حجة تاريخية أو قانونية لعودة اليهود إلى القدس أو فلسطين واحتلالها بالقوة.
العبور الصهيوني إلى القدس
من أهم وسائل العبور الصهيوني إلى القدس عبر نصف قرن من الزمان هو الدعم البريطاني سابقًا، والأمريكي حاليًّا؛ حيث قامت الحكومة البريطانية قبل نصف قرن تحت تأثير النفوذ الصهيوني بإصدار أول قانون للمطبوعات في العالم، خاصة بعد أحداث الخليل والعنف، إضافة إلى أن أول قانون للطوارئ في العالم أصدره البرلمان البريطاني لإخماد الثورة الفلسطينية وتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، كما قامت الولايات المتحدة دائمًا باتهام الفلسطينيين بالإرهاب دفاعًا عن الكيان الصهيوني الإرهابي، وحاولت دائمًا إنهاء الوجود الفلسطيني وتصفيته وإنكار حقه في العودة وإقامة دولته المستقلة وتمكين الكيان الصهيوني من سحق الشعب الفلسطيني عن طريق تزويده بالتقنية الحديثة العسكرية الأمريكية، وقيام الولايات المتحدة بحماية "الدولة" الوحيدة في العالم التي رفضت أن يكون لها دستور وأن تعلن عن قانون للحريات العامة بغية ممارسة جرائمها وإرهابها بدون قيود.
القدس ستبقى عربية إسلامية
القدس المحتلة كانت ولا تزال وستبقى مدينة عربية إسلامية، ومن الضرورة بمكان، بل ومن الواجب على كل عربي ومسلم، أن يتمترس حول عودة عروبة وإسلامية القدس المحتلة التي دنسها المحتلون الصهاينة وعاثوا فيها خرابًا وفسادًا.
يتوجَّب على العالم أن يقف موقفًا حازمًا من الممارسات الصهيونية المتواصلة بحق مدينة القدس؛ ابتداءً من محاولات هدم الأقصى وحفر الأنفاق تحت أساساته وتحت أساسات مدينة القدس بشكل عام، ومرورًا بمحاولات تهويد المدينة، وليس انتهاءً بممارسات الاحتلال بحق المقدسيين من طردٍ لهم من منازلهم تحت تهديد السلاح وعربدةٍ، ومن هدمٍ لمنازلهم وعقاراتهم، وسحبٍ لهوياتهم، وتهجيرٍ لهم من المدينة؛ بغية الضغط عليهم وإفراغ المدينة من سكانها الأصليين.